Monday, February 21, 2011

خمس أطروحات حول الموقف الراهن


أسبوع مر على رحيل مبارك ولا تزال وجهة التحولات فى مصر غير واضحة. تتعالى الأصوات المحذرة من سيناريو للثورة المضادة قد ينتهى إلى استنساخ الحزب الوطنى لنفسه وعودته للسلطة أو على الأقل إجهاض محاولات تصفية النظام القائم. وبينما يتخوف الكثيرون من استمراء الجيش للوضع الانتقالى وتحويله إلى وضع دائم، يتخوف آخرون من دور متصاعد للحركة الإسلامية بتنوعاتها وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمون. والجميع ينتقد غياب خارطة طريق واضحة وجدول زمنى ينظم عملية انتقال السلطة. بصفة عامة تسود المشهد حالة من التوجس والارتياب تقترن بمبادرات مشوشة فى جميع الاتجاهات.
     هذه الحالة تبدو طبيعية إذا أخذنا فى الاعتبار تسارع الأحداث وانهيار مبارك الغير متوقع فى هذا المدى الزمنى القصير، وهو الانهيار الذى أربك حسابات جميع القوى السياسية والتى طالما توحدت خلف شعار بسيط وجامع أعفاها من تقديم أى تصور لليوم التالى. وهذه الحالة مرشحة للاستمرار حتى يحين أوان أول استحقاق جديد مع انتهاء لجنة التعديلات الدستورية من عملها فى خلال أيام. قد تكون هذه الفترة الضبابية فرصة لإلقاء نظرة عامة على المشهد أملاً فى استكشاف اتجاهات عامة فى طريقها للتبلور وتحديد كيفية الاشتباك مع هذه الاتجاهات فى المستقبل القريب. خمس أطروحات يمكن ذكرها فى هذا الصدد.

     أولاً: لازالت الحركة الجماهيريرة هى صاحبة زمام المبادرة وهى الفاعل الرئيسى فى المشهد والذى يتحدد على وقع تحركاته مواقف وردود أفعال جميع الأطراف. اتخذت هذه الحركة منحى جديد منذ اختفاء مبارك يختلف نوعياً عن شكل الاحتجاج الذى ساد الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير. نحن أمام حلقة جديدة من حلقات الثورة المصرية أكثر جذرية حتى وإن بدت محصورة فى مطالب فئوية الطابع. اختفت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة من الشوارع والميادين الكبرى ولكن اتسعت رقعة الإضرابات العمالية والمهنية بشكل غير مسبوق وتركزت قائمة مطالبها على محورين: الأول يختص بتسوية أوضاع مهنية كدفع رواتب متأخرة او المطالبة بزيادات أوتثبيت لعمالة مؤقتة والثانى يختص بتغيير الإدرات الحالية والتى اقترنت بالأوليجاركية المتحلقة حول مبارك أو الحزب الوطنى. وبالتالى فهى حركة تتسق مع روح هذه الانتفاضة وتسعى لتحقيق أهدافها بوسائل أخرى. وكما أصبح من الواضح للجميع، فهذه الانتفاضة وإن تمحورت حول مطالب سياسية آنية إلا أن أفقها يمتد إلى ماهو أبعد، أى تصفية ميراث الاستبداد الملازم لدولة مابعد الاستعمار الناصرية والذى انتهى إلى "طور ليبرالى جديد" يدمج التسلط الأبوى مع منطق السوق فى مركب واحد جوهره هو السيطرة على فائض من الأجساد التى لاتصلح حتى للحكم واعتبارها مادة خام للقهر وفقط! انتهى هذا المركب كما نعرف جميعاً إلى تشكيل كتلة حاكمة أوليجاركية الطابع تشكلت على حساب منطق الدولة والمجال السياسى المحدود فى آن واحد وضربت بجذورها عمودياً فى الجسد الإجتماعى لتشمل قطاعات عليا ومتميزة من البيروقراطية العسكرية/الأمنية والمدنية فى كافة القطاعات، شرائح من الرأسمالية الصناعية والخدمية، ملاك أراضى وبرجوازية تجارية متوسطة تجمعها شروط ولاء مافياوية الطابع كما أوضحت خبرة الأسابيع القليلة الماضية. هذه الشبكات التى أفادت من، وحافظت على، الاستبداد المتوارث منذ ستين عاماً أضحت بمجرد اختفاء واسطة عقدها فى مرمى نيران الحركة الإضرابية الحالية فى كل شركة أو هيئة حكومية أو مجلس محلى. فى هذا السياق، لا يجب نسيان أن الإرهاصات الأولى لهذه الموجة الإضرابية والتى تداخلت مع وقائع التظاهر اليومى كانت بمثابة العامل الرئيسى وراء تدخل الجيش لحسم لموقف بما يعد دليلاً على وعى هذه الأوليجاركية بالإمكانيات الجذرية الكامنة فى هذه الموجة.
     من ناحية أخرى، أدى اتساع نطاق الاحتجاجات إلى دخول فئات إجتماعية جديدة كانت ضحية سياسات التحرير الإقتصادى طوال العقد الماضى الأمر الذى يدعم من طابع الانتفاضة الشعبى فى مواجهة "السُخف" المتواصل والذى يصر على أن يلصق صفة الشبابية بثورة شعبية بالمعنى الكلاسيكى للكلمة. وصف "الشبابية" ذاك محمل بأبوية بغيضة تسعى لفصل ما يجرى فى الشوارع والميادين الرئيسية عما يجرى فى العنابر والدوواين العامة. إلا أن القراءة الدقيقة لمسار الأحداث فى الحلقة الأولى من الانتفاضة يكشف عن مشاركة واسعة لهذه  القطاعات نفسها فى المدن الرئيسية خارج القاهرة بل وتشكيل قوام تظاهراتها فى غالبية الحالات خاصة فى المحلة الكبرى والسويس وأسيوط. تختلف التقييمات حول أفق هذه الموجة الإضرابية وما إذا كانت مجرد هزة ارتداديةناتجة عن اختفاء رأس النظام أم أنها موجة ستسمر إلى ما هو أبعد من ذلك. ولكن فى أى من الحالتين، من المؤكد أن ما ستنتزعه هذه الموجة من مكاسب سيتحول إلى تقاليد ترسيها تلك الحركة وتطبعها طبعاً فى ملامح المرحلة القادمة ولن يمكن التراجع عنها بسهولة.

     ثانياً: تبدو مواقف الجيش المحافظة والبطيئة متسقة مع منطق تدخله من الأصل. كما ألمحنا فى النقطة السابقة، جاء تدخل الجيش كمحاولة لإحتواء الحركة الجماهيرية الآخذة فى التوسع والسعى للحفاظ على الملامح العامة للنظام القائم وعلاقات الهيمنة التى يؤمنها فى نهاية المطاف. نحن لسنا أمام محاولة لتأسيس "بونابرتية" تضبط إيقاع الرأسمالية المنفلتة وتحتفظ لنفسها باستقلالية نسبية عن الصراع الإجتماعى بقدر ما أننا بصدد محاولة من داخل صفوف الكتلة الحاكمة نفسها، والتى تشكل القيادات العليا فى المؤسسة العسكرية أحد مكوناتها الأصيلة، للحفاظ على هيمنتها على المدى البعيد. وهذا التدخل كان ضرورياً فى ظل انهيار الأذرع الأمنية للنظام بالشكل الذى جعل استمرار القمع خياراً مستحيلاً. يفسر هذا المنطق غياب أى جدول زمنى يحدد خطوات الانتقال إذ أن هذا "الانتقال" نفسه لم يكن من ضمن أولويات المجلس العسكرى بدءاً! أكثر من ذلك، أظن أن تصريحات المجلس العسكرى الراغبة فى الانسحاب من المشهد وتسليم السلطة لمدنيين فى أسرع وقت ممكن تحمل قدراً عالياً من المصداقية، إذ أن فترة انتقال خاطفة سوف تضمن محدودية إجراءات الإصلاح والابقاء على ملامح النظام القائم دونما تغيير جذرى وابقاء مواقع نفوذ الجيش بعيدة عن مفاعيل الانتفاضة. بالتوازى مع ذلك، يدرك الجيش أنه لا يمكن السيطرة على الوضع بدون انفتاح محدود على مطالب الحركة الجماهيرية. التضحية بمجموعة جمال مبارك بالكامل، بل وربما بالحزب الوطنى كله كما يبدو حتى الآن، يمكن اعتبارها محاولات للتهدئة منخفضة الكلفة السياسية بالنسبة للجيش. بالتوازى مع هذه المحاولات، انفتح الجيش على جماعة الإخوان المسلمين بشكل لا تخطئه العين أملاً فى مساعدة من قبل قيادتها فى تهدئة الأمور. شهدنا إقحام ممثل لجماعة الإخوان المسلمين فى لجنة تعديل الدستور، بل واختيار المستشار طارق البشرى على رأس اللجنة إلى جانب تسهيل خطاب حاشد للقرضاوى تمحور حول دعوة المصريين إلى الصبر وإعطاء الجيش فرصة.
    وفى مقابل هذا الانفتاح المحدود، يسعى الجيش إلى إبداء قدر من الخشونة فى التعامل مع الحركة الإحتجاجية الواسعة وصلت إلى حد التهديد الصريح باستخدام القمع فى بيانه الصادر مساء الجمعة الماضى. من ناحية أخرى، يمكن قراءة التقارب مع الإخوان بوصفه محاولة لتفتيت الحركة الجماهيرية نفسها والتى لعب الإخوان فيها دوراً رئيسياً وكذلك لعزل الحركة المطلبية عن الجسم الواسع لحركة الاحتجاج. يتحرك الجيش فى هذا السياق بالتناغم مع فلول مجموعة جمال مبارك المتمترسة حتى الآن فى الإعلام والحكومة وقد أتاح رحيل مبارك هامش واسع من الحركة سمح برفع سقف خطابهم وتحريره من عبء الدفاع عن شخص واحد بل وتشغيل حملة مكثفة تتحدث عن ضرورة دفع عجلة الانتاج واستعادة الاستقرار فى أسرع وقت ممكن. بل إن قطاعات الرأسمالية المرتبطة عضوياً بالنظام أطلت مرة أخرى برأسها- بعد أن انحنت لعاصفة إجراءات ملاحقة الفساد التى أطلقها مبارك وسليمان أنفسهم وما رافقها من حملات إعلامية "ضد رجال الأعمال"- لتطالب الجيش، بمنتهى الثقة، بالتدخل لقمع الاحتجاجات العمالية. شهد يوم الأحد مثلاً تحريضاً سافراً من قبل كل من رئيس اتحاد جمعيات المستثمرين المصريين ورئيس غرفة الصناعات المعدنية بعبارات لا تحتمل التأويل تحث الجيش على "الوفاء بوعوده فيما يخص التصدى للإضرابات"! هذا التصريح لو صدر عن نقابة عمالية أو مجموعة سياسية لأعتبر تدخل فى شئون القوات المسلحة ولربما انتهى الأمر بصاحبه إلى المحاكمة العسكرية، والسوابق على ذلك كثيرة.  
     إلا أن مساعى الجيش، وكما سبق التوضيح، لازالت تصطدم بحركة جماهيرية نشطة تفرض عليها تنازلات يومية. وكما أشرنا فى الفقرة السابقة أن ما يتم التنازل عنه فى هذه المرحلة قد يتحول إلى تقليد. وبالتالى يصعب الحديث عن عودة الحزب الوطنى إلى الساحة السياسية بسلاسة أو دونما انشقاقات قد تؤثر على مستقبله. كما يصعب الحديث عن عودة سلسة لجهاز الشرطة دونما تغيير جذرى فى تكوينه وأنماط إدارته وعلاقته بالمواطنين. بالتالى فالسيطرة على الأوضاع وإعادة تشغيل النظام القائم تبدو مسألة صعبة المنال طالما بقيت الحركة الجماهيرية على تصاعدها والأرجح أننا سنشهد فترة تحول طويلة رغماً عن إرادة الجيش حتى ولو أصر على نقل السلطة لرئاسة منتخبة بعد ستة أشهر فالرئاسة الجديدة لن يسعها إلا الاستمرار فى عملية تفكيك النظام طالما بقيت الحركة الجماهيرية معبئة. عملية التفكيك تلك قد تشمل إقرار تعديلات دستورية واسعة تشتمل على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتطهير واسع لجهاز الشرطة أو إعادة هيكلته وإطلاق الحريات العامة والسياسية.

     ثالثاً: بسعيها المكشوف للتقارب مع الجيش تحاول جماعة الإخوان المسلمون تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب الحركة الجماهيرية. من الطبيعى أن تسعى أى حركة سياسية إلى الإفادة من مشاركتها فى الانتفاضة الجماهيرية وتدعيم مواقعها فى المرحلة القادمة، ولكن من قبيل الانتهازية السياسية أن يتم ذلك على حساب الحركة الجماهيرية التى وفرت لها غطاءاً حماها من الذبح حال استمر الثنائى مبارك وسليمان لأسابيع قليلة. أظن أن الجماعة تدرك أن المدخل الوحيد فى هذه المرحلة للتقارب مع الجيش هو التمايز عن الحركة الجماهيرية، وهذا هو الشرط الذى يتمسك به المجلس العسكرى بشكل واضح. شواهد سعى الجماعة للتمايز عديدة، أولها القبول بعضوية لجنة التعديلات الدستورية مع العلم بعدم اتساع عضوية الأخيرة لأى تمثيل لقوى المعارضة وغياب أى مكسب سياسى واضح من عضوية لجنة محدودة الاختصاصات وتكاد تكون فنية الطابع. لا يُفهم من هذه العضوية الباهتة إلا سعى الإخوان لإرسال رسالة للجيش مفادها استعدادهم الدائم للتعاون. الأخطر من قبول العضوية، هو توالى البيانات الإخوانية المطالبة الحركة الجماهيرية بالتهدئة، وهو المعنى الذى حمله خطاب القرضاوى يوم الجمعة الماضى. أغلب الظن أن تفاهماً ما يسعى الإخوان إليه يفضى إلى الإفراج عن معتقليهم فى قضية الأحكام العسكرية الشهيرة إلى جانب السعى إلى فرض سيطرتهم مرة أخرى على عدد من النقابات المهنية التى شهدت حراكاً فى الأسبوع الماضى، أما مسألة تأسيس حزب للإخوان فمن غير الواضح حتى الآن إذا ما كان الإخوان أنفسهم على استعداد لهذه الخطوة. بعبارة أخرى، يسعى الإخوان إلى الانفصال عن الحركة الجماهيرية مقابل مكاسب هى فى التحليل الأخير وقتية إن لم تكن تافهة. أى أن العقل المحرك لهذه الجماعة لم يغادر حقبة مبارك الكئيبة بما وسمها من انفضاض جماهيرى عن الاشتغال بالسياسة الأمر الذى يجعل الإخوان متعطشين للمساومات بمجرد أن تلوح إمكانياتها فى الأفق. لا يبدو أن قيادة الإخوان منتبهين إلى التسييس المتصاعد للجماهير، والذى يشمل شبابهم القاعديين، وهو ما يجعل مصير محاولات الالتفاف وفرض السيطرة تنتهى إما التهميش والعزل أو الصدام مع قطاعات فاعلة من هذه الحركة.

     رابعاً: قراءة الاتجاهات السابقة تشى أننا أمام تمايز متسارع الخطى داخل الجسم العريض الذى أسقط مبارك، وهو تمايز يتطور على محورين إجتماعى وسياسى: إختلاف التكوين الإجتماعى للحركة الإحتجاجية وتمايز الأفق السياسى للقوى المنخرطة فى صفوف هذه الحركة. هذا التمايز طبيعى، إذ كان من المستحيل الاحتفاظ بهذا الحلف العريض الضارب بجذوره عمودياً فى مختلف الطبقات الإجتماعية والممتد من أقصى يمين المشهد الأيديولوجى إلى أقصى يساره. هذا التمايز أيضاً مرغوب إذ يفضى إلى تجاوز حالة الضبابية التى مازالت تهيمن على خطاب هذه الانتفاضة وآيتها وصفها "بالشبابية" كما سبق الذكر، أو أنها انتفاضة للطبقة الوسطى تستهدف "انفتاح مصر على العالم" كما يطرح بعضاً من محاسيب جمال مبارك ولجنة سياساته فى محاولة لتسخيف أفقها. هذه الفئات هى التى يجب أن تحمل من اليوم عبء شعار هذه الانتفاضة الذى يبدو أنه فى طريقه للنسيان- خبز، حرية، كرامة انسانية.

     خامساً: فى وسط هذا المشهد يظهر قلب نابض من القوى الديمقراطية الجذرية الساعية إلى الحفاظ على جذوة هذه الحركة الجماهيرية ومد مفاعيلها كما أسلفنا إلى مفاصل النظام القائم. يضم هذا القلب تلاوين يسارية وليبرالية بل وحتى إسلامية تجتمع كلها على ضرورة مواصلة النضال حتى يتم تصفية النظام القائم. يعرف هذا القلب ماذا يريد وإن كان عاجزاً عن بلورة مهمة محددة فى هذه المرحلة، ومن ثم ينتهى به المقام إلى التنبيه المحموم ضد محاولات الالتفاف على الثورة والإصرار على أن قائمة المطالب لم يتحقق منها إلاالنذر اليسير دون قدرة على فعل موحد لفرض هذه المطالب. بعبارة أخرى، يتحول هذا القلب إلى رافد إضافى لحالة التوتر القائمة منذ سقوط مبارك. ماتحتاجه هذه الكتلة ليس بلورة قائمة مطالب تطول أو تقصر بقدر ما تحتاج إلى الاستقرار على مهمة محددة خلال الستة أشهر القادمة. وهذه المهمة يجب أن تتشكل فى ضوء إيقاع الحركة الجماهيرية، فإذا كانت هذه الحركة تخرج من المركز القاهرى/السكندرى وتتطور إلى ماهو أبعد من التظاهر، لم يعد من المقبول أن تخاطبها هذه الكتلة من الفضائيات أو أن تطرح عليها العودة للإعتصام فى ميدان التحرير ناهيك عن طرح قائمة مطالب تختص بالإصلاح الدستورى للتفاوض مع المجلس العسكرى بالنيابة عن حركة لم تفوضها ولم تهتم بهذه المفاوضات.
     مهمة القلب الديمقراطى هى الانخراط فى تنظيم هذه الحركة وغيرها من الفعاليات الجماهيرية لتشكيل قوة ضغط فعلية على حكومة شفيق والمجلس العسكرى وانتزاع حق التنظيم المستقل والعمل السياسى خارج منطق الترخيص البالى. يبدو أن قطار الأحداث قد تجاوز محطة إطلاق مبادرات ومشاريع الإصلاح الدستورى وأن العسكر مصرين على الانسحاب من المشهد بأى ثمن وما سيتم انتزاعه الآن على الأرض هو الأهم والأبقى. لا يجب جرنا إلى محاربة الأشباح...فى هذا السياق أخشى أن يتم استنزاف القوى الديمقراطية فى معركتين وهميتين: الأولى فى مواجهة عسكر يبدون استعداد عال للتكيف مع تكتيك التظاهر فى العطلات الرسمية! والمعركة الثانية مع الإخوان وهم على انتهازيتهم المفرطة أبعد ما يكونوا من أن يشكلوا خطراً على الثورة وتقاربهم مع الجيش كما أسلفنا إما أن يضعهم فى مواجهة الحركة الجماهيرية أو ينتهى بهم إلى كارثة مطبقة على يد الجيش نفسه، والأمثلة التاريخية كثيرة. الأهم من ذلك أن خطوط الفرز فى هذه المعركة لا ترتسم حول مسألة مدنية الدولة، ومن ثم فخطر الإخوان يبدو مبالغاً في تقديره بشده. فلا المادة الثانية من الدستور مثلا كانت على بساط البحث، ومن غير المتوقع التطرق إلى نظام الكوتة النسائية المعمول به فى الدستور الحالى وإحتمالات إضفاء طابع طائفى على هذه الانتفاضة تبدو شبه مستحيلة. وبالتالى فالانجرار لمعركة ضد الإخوان نصدر فيها البيانات ويسيل فيها الحبر دفاعاً عن مدنية للدولة لم يهاجمها أحد حتى اللحظة هو بمثابة إهدار لوقت أثمن من أن يهدر خارج النقابات والاتحادات المهنية والعمالية والتى يمرح فيها الإخوان منفردين حتى اللحظة. مهمتنا هى بناء التظيمات المدنية بين الشباب والعمال والموظفين فى الأحياء والمصانع والدوواين الحكومية. هذا لا يتناقض مع الكتابة والدعاية والإتصال ولا مع المطالبة بتغيير الدستور ولكنه يفرض منطقاً مختلفاً فى توزيع الأعباء وترتيب مختلف للأولويات فى ظل توازنات القوى والتى وإن كانت لازالت تعمل فى اتجاه الحركة الجماهيرية إلا أن هذا الوضع قد يتغير فى أى لحظة.

No comments:

Post a Comment